تحولات التجارة العالمية: التعهيد في الأسواق القريبة يقود المستقبل
سبتمبر 2025
واجهت سلاسل الإمداد العالمية خلال الأعوام الأخيرة سلسلة من الاضطرابات المتتالية والمتداخلة، بدأت مع تفشي جائحة كوفيد-19 في عام 2019 وما تبعها من إغلاقات شاملة على مستوى العالم. وقد تفاقمت هذه التحديات بفعل الحرب الروسية–الأوكرانية المستمرة، وتصاعد حدة التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وما ترتب عليها من تعطّل حركة الملاحة في ممرات بحرية استراتيجية مثل قناة السويس، بالإضافة إلى اشتداد حدة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
وقد أظهرت هذه التطورات مجتمعةً مواطن الضعف في نموذج التعهيد الخارجي (Offshoring) المعتمد على العولمة، الأمر الذي دفع العديد من الشركات الدولية إلى إعادة تقييم استراتيجياتها في مجال التعهيد. ونتيجة لذلك، اتجهت بعض هذه الشركات نحو تبني استراتيجية التعهيد في الأسواق القريبة (Nearshoring)، والتي تقوم على نقل العمليات الإنتاجية إلى مواقع جغرافية أقرب بغرض تقليل المخاطر، وتعزيز القدرة على الاستجابة، وتقليص طول وتعقيد سلاسل الإمداد. وفي السياق ذاته، برزت مقاربة أخرى تُعرف باسم التعهيد في الدول الصديقة (Friend-shoring)، حيث يتم نقل العمليات إلى دول ترتبط بعلاقات سياسية مستقرة وتحالفات استراتيجية مع الدولة الأم، وذلك للحد من المخاطر الجيوسياسية.
وتهدف هذه المدونة إلى دراسة التحول الجاري في أنماط التعهيد العالمية من النموذج التقليدي إلى نماذج أكثر أمانًا واستدامة، مثل التعهيد في الأسواق القريبة أو الدول الصديقة، مع استعراض الانعكاسات المحتملة لهذا التحول على اتجاهات التجارة الدولية. كما تتناول بالدراسة الموقع الاستراتيجي لمصر وإمكاناتها المتزايدة كمركز إقليمي واعد لعمليات التعهيد في الأسواق القريبة للشركات العالمية في مختلف القطاعات، بما يتسق مع جهود الدولة الرامية إلى تعزيز الاستثمار من أجل التصدير وتعميق اندماجها في سلاسل القيمة العالمية.
تحوّل الاتجاهات العالمية: من التعهيد الخارجي إلى بدائل جديدة
لم يكن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 هو البداية الفعلية لمسار العولمة، غير أنّ هذا الحدث شكّل محطة مفصلية أسهمت في تسريع وتيرة التكامل العالمي بشكل غير مسبوق. فقد أتاح هذا الانضمام للاقتصاد العالمي النفاذ إلى سوق عمل ضخم يضم أكثر من مليار عامل بتكلة تنافسية، الأمر الذي عزّز بقوة انتشار نموذج التعهيد الخارجي، حيث تقوم الشركات بنقل أنشطة متعددة – تمتد من العمليات التصنيعية إلى خدمات العملاء – إلى دول أخرى بهدف رفع الكفاءة وتحقيق وفورات في التكاليف.
ومع تزايد الاعتماد على التعهيد الخارجي، أصبحت التجارة عبر الحدود تمثل النمط السائد في عمل الشركات متعددة الجنسيات، وهو ما انعكس في توسع لافت للتجارة الدولية. فقد ارتفعت القيمة الإجمالية للتجارة العالمية من نحو 6.5 تريليون دولار في عام 2000 إلى ما يقارب 17.6 تريليون دولار بحلول عام 2020. وخلال العقدين الماضيين، صعدت حصة الصين من التجارة العالمية من أقل من 4% إلى ما يقرب من 15%، في دلالة واضحة على الدور المحوري الذي اضطلعت به في إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية وصياغة ملامح العولمة الحديثة.
الشكل 1: أثر التعهيد الخارجي على حركة التجارة العالمية
كان هذا التبنّي السريع لنهج التعهيد الخارجي مدفوعًا بمجموعة من المزايا الجوهرية التي جعلت منه استراتيجية جذابة للشركات العالمية. في مقدمة هذه المزايا جاء الانخفاض الكبير في تكاليف الإنتاج، مما أتاح للشركات تعزيز ربحيتها عبر الاستفادة من انخفاض الأجور والمصروفات التشغيلية في الأسواق النامية. كما وفّر التعهيد الخارجي إمكانية الوصول إلى قاعدة واسعة ومتنوعة من الكفاءات، الأمر الذي مكّن الشركات من توسيع عملياتها بسرعة والاستفادة من مهارات متخصصة كانت نادرة أو أكثر تكلفة في بلدانها الأصلية. وإضافة إلى ذلك، قدّمت العديد من الدول المستضيفة أطرًا تنظيمية مبسّطة وسياسات صديقة للمستثمرين، مما سهّل على الشركات الأجنبية تأسيس أعمالها وتشغيلها مع تجاوز التعقيدات البيروقراطية. وقد ساهمت هذه العوامل مجتمعةً في تغذية التحول العالمي نحو العمليات الخارجية، وجعلت التعهيد الخارجي جزءًا راسخًا في صميم بنية التجارة الدولية.
الشكل 2: دوافع الشركات لتبني استراتيجيات التعهيد الخارجي
شهدت الفترة ما بين عامي 1980 و2010 هيمنة واضحة لاستراتيجيات التعهيد الخارجي، غير أنّ هذه الاستراتيجيات تعرضت لتباطؤ ملحوظ خلال الأعوام 2007–2009 نتيجة التداعيات السلبية المترتبة على الأزمة المالية العالمية لعام 2008. وفي هذا السياق، بدأ مفهوم التعهيد في الأسواق القريبة في الظهور كخيار بديل، خاصة في الأسواق الأوروبية والأمريكية.
ومع ذلك، لم يحظَ هذا الاتجاه بانتشار واسع في تلك المرحلة؛ حيث تشير الدراسات إلى أنّ ما لا يتجاوز 2% من الشركات المصنعة الألمانية كان منخرطًا بصورة فعلية في أنشطة إعادة التوطين (Reshoring) والتعهيد في الأسواق القريبة خلال الفترة الممتدة من عام 2010 حتى منتصف عام 2012. كما أظهرت البيانات الإحصائية أنّه خلال الفترة من 2014 إلى 2018، تم رصد 253 حالة فقط من عمليات إعادة التوطين والتعهيد في الأسواق القريبة داخل أوروبا، وقد قُدّر عدد فرص العمل المستحدثة نتيجة لهذه التحركات بنحو 12,840 وظيفة.
منذ أواخر عام 2019، تلقى الاقتصاد العالمي سلسلة من الصدمات المتتالية التي أعادت تشكيل المشهد العالمي لسلاسل الإمداد. فقد بدأت بانتشار جائحة كوفيد-19 وتداعيات الإغلاق الشامل على مستوى العالم، مرورًا بالحرب الروسية–الأوكرانية، والتوترات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وانتهاءً بالحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. وقد ترافقت هذه الأحداث مع موجات متكررة من الاضطرابات في سلاسل الإمداد، الأمر الذي فرض ضغوطًا تضخمية إضافية على النظام الاقتصادي العالمي برمته.
ولم تقتصر معاناة الاضطرابات في سلاسل الإمداد على الشركات الكبرى فحسب، بل شملت أيضًا المستهلكين والمنتجين العاديين في مختلف أنحاء العالم، الذين اضطروا للتعامل مع حالة من عدم الاستقرار. وقد دفع ذلك العديد من الشركات، لا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا، إلى البحث عن حلول تضمن قدراً أكبر من الأمان والاستقرار أمام مثل هذه الاضطرابات. وفي هذا السياق، برزت استراتيجيات متعددة مثل التعهيد في الأسواق القريبة، وإعادة التوطين، والتعهيد في الدول الصديقة، كخيارات متنامية الأهمية لمواجهة التحديات الراهنة.
الشكل 3: استراتيجيات التعهيد الجديدة
في أحدث استطلاع أعمال أجرته شركة QIMA ، أشارت النتائج إلى أن 26% من الشركات التي شملها الاستطلاع على مستوى العالم تخطط لاعتماد التعهيد في الأسواق القريبة خلال عام 2025. وقد ارتفعت هذه النسبة في الاتحاد الأوروبي لتصل إلى 28%، بينما جاءت أعلى في الولايات المتحدة حيث وصلت إلى 33% من الشركات التي تخطط لاعتماد هذا النهج في العام نفسه. وتجدر الإشارة إلى أن خطط التوجه نحو التعهيد في الأسواق القريبة فاقت بشكل ملحوظ خطط إعادة التوطين، إذ تراوحت نسب الأخيرة بين 5% و17% فقط.
الشكل 4: خطط التعهيد في الأسواق القريبة وإعادة التوطين وفقًا لاستطلاع شركة QIMA لعام 2025
المصدر: شركة QIMA
مزايا وعيوب التعهيد في الدول القريبة
يوفّر التعهيد إلى دول قريبة العديد من المزايا، من أبرزها:
- القرب الجغرافي: سهولة السفر والتواصل بفضل تشابه المناطق الزمنية، إلى جانب تقصير سلاسل التوريد وتسريع وصول المنتجات إلى العميل المستهدف، مما يحقق وفورات ملحوظة في التكاليف.
- خفض التكاليف: بالإضافة إلى توفير تكاليف الشحن، قد يكون هذا الخيار أكثر جدوى اقتصاديًا تبعًا للموقع وطبيعة العمل.
- توسيع نطاق المواهب: يتيح للشركات الوصول إلى مجموعة أوسع من مزوّدي الخدمات وشركاء التعهيد المتميّزين.
- الحد من مخاطر التأخير.
- رسوم جمركية أقل: نظرًا لوجود اتفاقيات تجارة تفضيلية مع الدول المجاورة أو القريبة جغرافيًا.
لكن في المقابل، قد يواجه هذا النهج بعض التحديات، مثل:
- حواجز اللغة والثقافة: والتي قد تعيق أحيانًا التواصل بسهولة واستمرارية علاقات العمل، مما يؤثر على جودة وسلاسة عمليات الإنتاج.
- قاعدة مواهب محدودة: على الرغم من أنها أوسع من تلك المتاحة في إعادة التوطين، إلا أنها تبقى أصغر مقارنة بقاعدة المواهب في التعهيد إلى دول بعيدة.
- انخفاض مستوى والمرونة: ففي بعض الحالات، قد يواجه العاملون صعوبة في التعاون مع فرق عمل خارج بيئتهم المعتادة، مما يحد من سهولة العمل المشترك.
اتجاهات التجارة في عالم التعهيد في دول قريبة
استنادًا إلى تحليل بيانات التجارة والاقتصاد لأكثر من 150 دولة، بالإضافة إلى التأثيرات المتوقعة للمبادرات السياسية الوطنية والإقليمية الأخيرة، حدّدت شركة BCG عدة تحوّلات جوهرية في ممرات التجارة العالمية بحلول عام 2033، مدفوعة باتجاهات التعهيد في دول قريبة والتعهيد في دول صديقة. ويمكن تلخيص هذه الاتجاهات على النحو التالي:-
- تتجه أمريكا الشمالية نحو أن تصبح كتلة تجارية أكثر تكاملاً ومرونة، مدفوعةً بتعميق الروابط بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، وجهود التعهيد في الدول الصديقة على المدى الطويل، الهادفة إلى تقليل الاعتماد على آسيا، وخاصةً الصين. وقد توقعت شركة BCG أن ينمو حجم التجارة بين الولايات المتحدة والمكسيك بمقدار 315 مليار دولار أمريكي (4%). بينما ستتوسع التجارة بين الولايات المتحدة وكندا بمقدار 147 مليار دولار (1.9%) ومع ذلك، فإن أي تغييرات كبيرة في الرسوم الجمركية الأمريكية على الواردات المكسيكية والكندية قد تغيّر حجم واتجاه التدفقات التجارية.
- يعيد التعهيد في الدول الصديقة تشكيل ديناميكيات التجارة في أمريكا الشمالية، فبافتراض بقاء العلاقات مستقرة نسبيًا، من المتوقع أن يرتفع حجم التجارة السنوية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمقدار303 مليارات دولار أمريكي، أي بمعدل نمو سنوي مركب 1% بحلول عام 2033. وستساهم الجهود المبذولة لتقليل الرسوم الجمركية وتنسيق السياسات التجارية في القطاعات الرئيسية مثل صناعة السيارات والتصنيع المتقدم، في تعزيز الروابط عبر الأطلسي. إلا أن عودة السياسات الحمائية – مثل الرسوم الجمركية التي فُرضت خلال إدارة ترامب – قد تُبطئ أو حتى تعكس هذا الزخم.
- تُقدَّر الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب بأنها قد تُقلّص الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي بنسبة تتراوح بين 3% و1.5%، وذلك اعتمادًا على حجمها ونطاقها وطبيعة الردود الانتقامية أو الإجراءات الأحادية المقابلة. مثل هذا العبء سيضعف اقتصاد الاتحاد الأوروبي، ويحد من قدرته ورغبته في الاستثمار، ويزيد من تكلفة التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. أما فيما يتعلق بالتعهيد في الدول الصديقة، فهذا يعني أنه رغم وجود حافز لبناء سلاسل توريد أقوى وأكثر أمانًا عبر الأطلسي، إلا أن تكلفة تحقيق ذلك تصبح أعلى في ظل الرسوم الجمركية العدوانية.
- توسّع الصين حضورها الاقتصادي في إفريقيا، وتواصل تنويع شراكاتها التجارية العالمية من خلال التعهيد في دول قريبة. ومن المتوقع أن ينمو حجم التجارة الصينية بمقدار 173 مليار دولار أمريكي بحلول 2033.
- من المتوقع أن تشهد التجارة بين الاتحاد الأوروبي والصين ركودًا، مما سيدفع الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز علاقاته مع شركائه التقليديين (مثل الولايات المتحدة واليابان)، إضافةً إلى التوجه نحو التعهيد في الأسواق الناشئة (مثل تركيا والدول الإفريقية).
- من المتوقع أن تصبح شمال إفريقيا وجهة رئيسية للتعهيد في دول قريبة، خاصةً لسلاسل التوريد الصناعية القادمة من الاتحاد الأوروبي والصين.
الشكل 5: كيف ستتغيّر تدفقات التجارة بين الدول والمناطق بحلول عام 2033
المصدر: BCG
دراسة حالة للتعهيد في الدول القريبة في قطاع المنسوجات
لطالما عُرفت صناعة المنسوجات والملابس الجاهزة عالميًا بأنها “صناعة مهاجرة”، حيث اعتادت تاريخيًا على الانتقال إلى المناطق التي توفر تكاليف عمالة أقل، وسياسات تجارية ميسّرة، وبنية تحتية قابلة للتوسع. فعلى مدى العقود الماضية، انتقل الإنتاج من أوروبا وأمريكا الشمالية إلى شرق آسيا، ثم لاحقًا إلى جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا. إلا أن الاتجاه المتصاعد نحو التعهيد في دول قريبة أصبح اليوم نهجًا رئيسيًا عبر مختلف حلقات سلسلة القيمة في هذه الصناعة.
وبعد الاضطرابات التي شهدتها سلاسل الإمداد العالمية، أعاد تجّار التجزئة والعلامات التجارية النظر في استراتيجيات التوريد الخاصة بهم، مفضلين الاعتماد على أوقات تنفيذ أقصر، وتعرّض أقل للمخاطر، ومرونة أكبر في سلاسل الإمداد. وفي صناعة المنسوجات المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعالم الأزياء السريع والتغيرات الموسمية، أصبح عامل السرعة في الوصول إلى الأسواق ميزة تنافسية بالغة الأهمية.
وكشف مسح أجرته شركة McKinsey & Company عام 2023 أن أكثر من 70% من التنفيذيين في قطاع الملابس بأمريكا الشمالية يخططون لزيادة الاعتماد على التعهيد في دول قريبة أو إعادة التوطين خلال السنوات الخمس المقبلة، مع الإشارة إلى أن أمريكا الوسطى والمكسيك وأجزاء من أوروبا الشرقية تعد من أبرز الوجهات المفضلة، نظرًا لقربها الجغرافي وتوافر العمالة الماهرة والمزايا التجارية.
علاوة على ذلك، أكّد كل من منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي على الدور المتزايد لسلاسل القيمة الإقليمية في صناعة المنسوجات، مشيرين إلى أن الاعتماد على التوريد من مناطق قريبة لا يقلل فقط من التكاليف والوقت، بل يساهم أيضًا في خفض الانبعاثات الكربونية—وهو عامل يزداد أهميته في ظل تنامي مطالب المستهلكين والجهات التنظيمية بممارسات أكثر استدامة.
ويُعد التحول الذي يشهده قطاع المنسوجات والملابس الجاهزة في الولايات المتحدة نحو أمريكا الوسطى مثالًا بارزًا على هذا الاتجاه العالمي. فبعدما كان يعتمد تاريخيًا على الواردات الصينية، أصبح يتجه بشكل متزايد إلى الاستيراد من دول قريبة مثل هندوراس والسلفادور وغواتيمالا وجمهورية الدومينيكان. ويُعزى هذا التحول بدرجة كبيرة إلى الاختناقات في سلاسل الإمداد، وارتفاع تكاليف الإنتاج في آسيا، والمزايا الاستراتيجية للقرب الجغرافي.
وبموجب اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وجمهورية الدومينيكان وأمريكا الوسطى، تستفيد الشركات الأمريكية من دخول معفي من الرسوم الجمركية على منتجات المنسوجات والملابس المصنوعة من خيوط وأقمشة أمريكية، مما يخلق علاقة تجارية متبادلة التعزيز. ووفقًا لـلمجلس الوطني لمنظمات المنسوجات، بلغت التجارة الثنائية في المنسوجات والملابس بين الولايات المتحدة ودول اتفاقية التجارة الحرة بين جمهورية الدومينيكان وأمريكا الوسطى نحو 15.1 مليار دولار أمريكي في عام 2022، داعمةً أكثر من مليون وظيفة في مختلف أنحاء المنطقة.
وإلى جانب الفوائد التجارية، يحمل التعهيد في دول قريبة آثارًا اجتماعية واقتصادية أوسع؛ إذ يسهم في تقليل ضغوط الهجرة عبر خلق فرص عمل محلية، وتعزيز التنمية الصناعية، والمساهمة في الحد من الفقر في المنطقة.
فرصة مصر كوجهة للتعهيد في الدول القريبة
تتوقع شركة BCG أن مركز الثقل في التجارة العالمية يتجه نحو الجنوب، حيث ستلعب كل من جنوب شرق آسيا، وجنوب آسيا، وإفريقيا جنوب الصحراء، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأمريكا اللاتينية دورًا محوريًا في نمو التجارة مستقبلًا.
وفي خضم هذه التحولات والاتجاه العالمي نحو تنمية المناطق الناشئة بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تبرز مصر كوجهة متزايدة الجاذبية ومرشّح رئيسي للشركات التي تسعى إلى التعهيد في دول قريبة لتوفير خدماتها التجارية، وذلك بفضل مجموعة من المقومات الرئيسية التي تجعلها بيئة مثالية لهذا النوع من الاستثمارات.
الشكل 6: مقومات مصر لتصبح الوجهة التالية لحركة التعهيد في الدول القريبة
بفضل موقعها الجغرافي المتميز وإشرافها على قناة السويس—أحد أهم الممرات البحرية في العالم—تتمتع مصر بمكانة استراتيجية تمكّنها من تسهيل تدفقات التجارة العالمية. كما أنّ البلاد ترتبط بشبكة بنية تحتية متطورة تشمل نحو 155,000 كيلومتر من الطرق الممهدة و10,500 كيلومتر من السكك الحديدية، وهو ما يعزز كفاءة الخدمات اللوجستية وسلاسة حركة البضائع.
تمتلك مصر ما يقارب 18 ميناءً تجاريًا و27 مطارًا، بما يضمن حركة سلسة للبضائع محليًا ودوليًا. ويُذكر على نحو خاص أن زمن العبور من مصر إلى أوروبا يُعد قصيرًا للغاية—يتراوح بين 6 إلى 12 يومًا فقط—مقارنةً بما بين 24 إلى 35 يومًا من العديد من الدول الآسيوية. ويعكس هذا التفوق موقع مصر الاستراتيجي، حيث احتلت المرتبة الأولى في إفريقيا من حيث مؤشر الترابط (Connectivity Index) خلال الربع الرابع من عام 2024، مؤكدةً بذلك دورها المتنامي كبوابة محورية بين القارات.
تقدّم مصر تكاليف عمالة تنافسية مقارنةً بالأسواق الناشئة الأخرى مثل الصين وتركيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، حيث يبلغ متوسط الأجر الشهري نحو 140 دولارًا أمريكيًا فقط. وإلى جانب الكفاءة في التكاليف، تتمتع مصر بقوة عاملة كبيرة ومتنامية تضم أكثر من 29 مليون فرد في سن العمل، تشمل العمالة شبه الماهرة والماهرة وذوي المهارات العالية، مما يوفّر قاعدة قوية من المواهب لمختلف القطاعات الصناعية والخدمية. إن هذا المزيج من التكلفة المناسبة وتوافر الموارد البشرية يعزز من جاذبية مصر كمركز للتعهيد في الدول القريبة.
وعلى الصعيد التجاري، تتمتع مصر بدرجة عالية من الاندماج في التجارة العالمية من خلال أكثر من 29 اتفاقية تجارة حرة، ما يتيح لها الوصول إلى أكثر من 3.1 مليار مستهلك حول العالم. وتشمل هذه الاتفاقيات أسواقًا إقليمية ودولية رئيسية، ما يعزز بشكل كبير من إمكانات مصر التصديرية. ومن أبرز هذه الاتفاقيات: الكوميسا، ومنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، واتفاقية الميركوسور، واتفاقية مصر مع تركيا، واتفاقية مصر مع دول الإفتا، إضافة إلى اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. تسهم هذه الاتفاقيات في تقليص أو إزالة الحواجز التجارية، مما يتيح للمنتجات المصرية دخول الأسواق العالمية بقدرة تنافسية أكبر، ويعزز من مكانة مصر كمحور تجاري حيوي.
للاستفادة الكاملة من هذه المقومات واغتنام فرصة التحول إلى مركز عالمي وإقليمي للتعهيد في الدول القريبة يتعين على الحكومة المصرية النظر فيما يلي:
- تطوير تجمعات صناعية متخصصة: ينبغي تحديد القطاعات ذات الأولوية مثل صناعة المنسوجات والملابس الجاهزة، والصناعات الزراعية والغذائية، والصناعات الدوائية، والإلكترونيات، والعمل على إنشاء تجمعات صناعية متخصصة لها، مزودة ببنية تحتية ملائمة، وأطر تنظيمية مبسطة، وحوافز استثمارية موجهة لجذب الشركات الأجنبية الراغبة في نقل أنشطتها الإنتاجية إلى مصر.
- تسريع وتيرة الإصلاحات التنظيمية وتيسير إجراءات الاستثمار: يتطلب الأمر تبسيط الإجراءات الجمركية، وتعزيز مستويات الشفافية، والإسراع في إصدار تراخيص الأنشطة الصناعية، بما يسهم في تحسين بيئة الأعمال. كما يُقترح إنشاء وحدة لتيسير التعهيد تحت مظلة الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة لتقديم الدعم المخصص للشركات التي تعتزم إعادة توطين أنشطتها في مصر.
- تعزيز البنية التحتية اللوجستية والتجارية متعددة الوسائط: على الرغم من تميز مصر بمنظومة لوجستية تنافسية، فإن مواصلة الاستثمار في الموانئ البحرية والموانئ الجافة وشبكات السكك الحديدية—لا سيما تلك التي تربط صعيد مصر بموانئ البحرين الأحمر والمتوسط—يمثل أمرًا جوهريًا لدعم كفاءة سلاسل الإمداد وتسهيل حركة التجارة عبر الحدود.
- تفعيل الاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة لجذب الاستثمارات الموجهة للتصدير: من الضروري إطلاق حملة ترويجية دولية تبرز ما تتمتع به مصر من نفاذ تفضيلي إلى الأسواق الرئيسية عبر اتفاقيات التجارة الحرة. كما أن إبراز قصص النجاح للشركات التي استفادت من هذه الاتفاقيات من شأنه تعزيز المصداقية وجذب المزيد من الاستثمارات الباحثة عن دخول معفى من الرسوم الجمركية إلى أسواق أفريقيا وأوروبا والمنطقة العربية.
إن تطبيق هذه السياسات والإجراءات سيُمكّن مصر من مواكبة التحولات العالمية في أنماط التعهيد في الدول القريبة، وتعزيز مكانتها في سلاسل القيمة العالمية، وخلق فرص عمل ذات جودة، وتسريع وتيرة التحديث الصناعي، بما يرسخ طموح الدولة في أن تصبح مركزًا إقليميًا رائدًا للاستثمار والتصدير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
https://www.savills.com/impacts/market-trends/can-nearshoring-solve-supply-chain-resilience.html*
Great Powers, Geopolitics, and Global Trade | BCG*
https://www.mckinsey.com/industries/retail/our-insights/is-apparel-manufacturing-coming-home*
https://www.thecentralamericangroup.com/investment-in-central-america/*
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء*
البنك الدولي*
لا تعليقات