أصبح هناك إجماع اليوم بين كافة أطياف المجتمع من مفكرين وباحثين وصناع قرار وحتى المواطن البسيط على ضرورة الاعتماد على موارد أكثر استدامة للنقد الأجنبي وذلك من جراء الأزمة الاقتصادية التي مر بها الاقتصاد المصري والتي نتج عنها ارتفاعات غير مسبوقة في مستوى الأسعار وتدهور كبير في قيمة العملة واتساع الفجوة بين السوق الرسمي والسوق الموازي.
وقد بات الجميع وعلى رأسهم القيادة السياسية للدولة تنادى بضرورة تعزيز الصادرات. وقد أعلنت الحكومة المصرية بالفعل منذ أزمة كورونا استهدافها لزيادة الصادرات المصرية لمختلف الأسواق العالمية لتصل إلى 100 مليار دولار سنويًا من خلال تطوير المنتج المصري وزيادة قدرته التنافسية وفتح أسواق جديدة للمنتجات المصرية بالإضافة إلى تقديم كافة أوجه المساندة للمصدرين وهو أمر ليس بعيد المنال، بل ولدينا القدرة على تخطي هذا المستهدف بمراحل.
والسؤال الأهم هو هل ما يتم اتخاذه من من سياسات وإجراءات في هذا الصدد يهدف إلى تعزيز مناخ التصدير بالفعل؟
باستعراض سريع لأهم القرارات والسياسات التي تم اتخاذها خلال الفترة الأخيرة نجد أن منها ما يتعارض في حقيقة الأمر مع المستهدف الرئيسي لزيادة الصادرات ويأتي في مقدمتها سياسة حظر الاستيراد والتي لم تفرق في تطبيق الحظر بين المدخلات الهامة للإنتاج والتصنيع المعزز للصادرات بالفعل وتلك الخاصة بالاستهلاك، بالإضافة إلى قرارات إلغاء دعم الغاز لبعض المصانع وغيرها. هذا فضلًا عن عدم وجود سياسة صناعية واضحة ومحددة الاتجاه، حيث تتعارض متطلبات السياسة الصناعية اللازمة لإحلال الواردات تماما عن تلك المستهدفة لتعزيز الصادرات. إن كل سياسة من تلك السياستين تتطلب إجراءات وسياسات مختلفة ويجب أن تحدد وفقا لدراسة متخصصة للهيكل الصناعي والإنتاجية ويتم اتخاذ القرار وفقا لعدة مبادئ وشروط محورية تأتي في مقدمتها تعظيم الكفاءة الاقتصادية للإنتاج والإنتاجية والتكنولوجيا وتحقيق وفورات الإنتاج وغيرها من المبادئ الاقتصادية الهامة والتي توارت في ظل تشتت الجهود في عدة طرق ومستهدفات غير متسقة وإهدار الوقت في مزيد من الدراسات والاستراتيجيات والتوجهات والتي امتلأت بها أروقة الهيئات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية على الرغم من أن سياسات وآليات تعزيز الصادرات معروفة ومحددة وينادى بها مجتمع رجال الأعمال منذ عقود.
فوفقا لأخر دراسة لمركز الدراسات الاقتصادية عن باروميتر الاعمال عن أداء الاعمال ديسمبر 2023 مازالت إجراءات التعامل مع الجهات الحكومية والمنظومة الضريبية وزيادة الرسوم المفروضة على الخدمات الحكومية تأتي في مقدمة قائمة أسباب تدني مؤشر أداء الأعمال في مصر.
ومن ثم نؤكد على أن تعزيز الصادرات في واقع الأمر يتطلب تعزيز الاستثمار وتوفير الحوافز اللازمة والمناخ الداعم لذلك من تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والتي سبق وطالب بها مجتمع المصدرين ورجال الأعمال وأكدتها الكثير من الدراسات واستطلاعات الرأي والتقارير. ومن ثم فقد تبنت جمعية المصدرين المصريين “اكسبولينك” مبادرة “الاستثمار من أجل التصدير” Invest To Export وذلك لدعم سياسات الدولة للتوجه بشكل فعال لزيادة الصادرات المصرية. ولحين البت في ذلك والخروج من هذه المنظومة المتشابكة المتداخلة من السياسات والإجراءات نعيد التأكيد في هذه المدونة على رؤية مجتمع المصدرين لمتطلبات تعزيز اجندة الصادرات للوصول إلى المستهدف القومي والذى تم صياغتها بمشاركة 11 جهة متخصصة منها اتحاد الصناعات والمجالس التصديرية وجمعيات رجال الأعمال وجمعيات شباب رجال الأعمال وتم إصدار وثيقة بعنوان ” رؤية مجتمع الاعمال لمستقبل الصادرات المصرية” والتي تتعلق بالإصلاحات اللازمة في كل من منظومة التصدير والاستيراد وفي منظومة الاستثمار والتصنيع من أجل تعزيز صادراتنا إلى المستوى المأمول والتي تمت صياغتها بالتعاون مع المركز المصري للدراسات الاقتصادية.
شكل (1): محاور إصلاحات منظومتي التصدير والاستيراد والاستثمار والتصنيع

أولا: إصلاح منظومة الاستيراد والتصدير
• هناك ضرورة لتغيير التوجه الحكومي بصورة جذرية ليستهدف “تعزيز الصادرات” بدال من “حظر أو خفض الاستيراد” لما لذلك من مردود إيجابي على توفير العملة الصعبة وكذلك تصحيح للمفاهيم بأن زيادة تدفقات العملة الصعبة ترتبط فقط بخفض الاستيراد حيث أن زيادة الصادرات تستلزم زيادة في الواردات من الآلات والمعدات ومستلزمات الإنتاج والتي لا يمكن استبدالها بالخامات المحلية حفاظاً على جودة المنتج النهائي وبما يتماشى مع المواصفات الفنية العالمية المطلوبة.
• تحسين الإجراءات الاستيرادية وتنفيذ إصلاحات جذرية في منظومة الجمارك ونظام النافذة الواحدة والتي تأتي في صدارة الأولويات الإصلاحية لمنظومة التجارة الخارجية كونها تؤثر بشكل مباشر على إجراءات التصدير؛ فلا يمكن زيادة الصادرات بدون القضاء على المشكلات الأساسية في منظومة الجمارك والتي لم يتم إصلاحها بميكنة الإجراءات البيروقراطية في الأساس. حيث تستغرق عملية الإفراج الجمركي في مصر ما يقرب من شهر الأمر الذي نوهت إليه أحد التقارير الصادرة عن مؤسسة جايكا اليابانية على أنه من أهم العوائق لفاعلية إدارة سلسلة التوريد الدولية الحديثة إذا استغرق التخليص الجمركي ما يقرب من شهر واحد، فسيتأخر المخطط الإجمالي لإدارة سلسلة التوريد الدولية الحديثة كثيرًا في السوق المصري وفقا لتقرير أفادت به منظمة جايكا اليابانية . كما أنه لا يتضح كيف ساهمت الإصلاحات في قانون الجمارك وتعديل لائحته التنفيذية الصادر عام 2021 في حل المشكلات الجوهرية في نظام الجمارك والتي تمثلت في تعقد الدورة المستندية ومنها:
o مشكلات في نظام الدروباك والسماح المؤقت: والتي تمثل السبب الرئيسي وراء ارتفاع تكاليف التصدير وطول مدتها.
o تعدد الجهات المسئولة عن عمليات الفحص والافصاح: فهناك أكثر من 38 جهة مسئولة عن عمليات الفحص بالإضافة إلى الجمارك. وذلك على الرغم من إطلاق النافذة الواحدة عام 2020 والتي تقدم جميع الخدمات المتعلقة بالإفراج عن البضائع، إلا أن هذا النظام يعاني من أوجه قصور عديدة في تصميمه الأصلي؛ فهو لا يعمل حاليا على تحقيق الهدف المرجو من إنشائه في الأساس وهو قصر جميع الإجراءات على جهة واحدة مما يؤدي في النهاية إلى تحقيق أقصى قدر من الكفاءة، وإنما هو نافذة واحدة يعمل من ورائها العديد من الجهات مما يعمل على زيادة وتفاقم المشكلات وزيادة البيروقراطية.
o عدم وجود معايير واضحة وموحدة لتقدير التكاليف وإجراءات الاستيراد ككل: حيث أن هناك فرق كبير في التعامل مع نفس المنتج من حيث التكاليف والإجراءات أو الوقت الذي تستغرقه إجراءات الاستيراد ككل بين الموانئ المختلفة.
وغيرها من المشكلات والعوائق التي تعاني منها منظومة الجمارك في مصر . كما أن هناك العديد من الدراسات التفصيلية للمركز المصري للدراسات الاقتصادية والتي توضح العملية التصديرية لبعض السلع الاستراتيجية عن طريق المقابلات مع الأطراف ذات الصلة المعنين من المصدرين ورجال الأعمال. وشملت الدراسة عددا من المنتجات هي: تصدير الملابس الجاهزة، والمفروشات المنزلية، والرخام والجرانيت، ومنتجات الطماطم، واستيراد زيت النخيل، وقطع غيار الجرارات والسيارات وملحقاتها، والحديد والصلب، وبوليمرات الإيثيلين بصورتها الأولية.
• إصلاح آليات عمل برنامج المساندة التصديرية بما يعزز كفاءته ليكون حافز داعم للتصدير عوضا عن مجرد متأخرات مالية صعبة التحصيل لا تضيف إلى قدرة المصدرين على المنافسة العالمية، وفى هذا الصدد نرحب بالجهود الحكومية المبذولة لميكنة منظومة رد الأعباء التصديرية ونؤكد في هذا الصدد على أن الميكنة يجب أن يترتب عليها إزالة العقبات والمشكلات التي تواجه المصدر في سرعة الحصول على الدعم فعلى سبيل المثال يعد الشرط الخاص بإلزامية صدور شهادة الصادر من الجمارك أحد المشاكل التي تعوق استيفاء المستندات الخاصة بالحصول على المساندة التصديرية في زمن قصير، حيث يستغرق هذا الإجراء فترة تصل إلى عام، وطالب اتحاد الصناعات مراجعة هذا الإجراء للتصحيح. فالحل ليس في الميكنة وإنما في حل المنظومة الإجرائية الحاكمة لعملية رد الأعباء بما يحقق الكفاءة والفاعلية.
• إعادة النظر في ضوابط حظر الاستيراد خاصة الضوابط على احتياجات الصناعات الداعمة للصادرات من مستلزمات إنتاج وخامات تأتي في مقدمتها الأجهزة الكهربائية والأسمدة، والمنسوجات، والملابس الجاهزة، وغيرها. وعلى الرغم من انفراج أزمة السيولة الأجنبية-العامل الرئيسي وراء تلك القرارات- إلا أنه يجب التحوط وإعداد دراسة متأنية لسلسلة التصنيع للصادرات من المنتجات المصرية ذات التنافسية في الاقتصاد العالمي حتى لا تتأثر بأي قرارات أخرى تهدف إلى الحد من الاستيراد.
استعادة ثقة الحكومة في القطاع الخاص وإنهاء التشكك في كل إجراءات القطاع الخاص في منظومة التصدير أو الاستيراد ومراقبتها والتحقق منه ومن ثم زيادة في التكلفة والوقت المطلوب لإنهاء الإجراءات. وينطبق هذا تحديدا على دور هيئة الرقابة الصناعية.
ثانيا: إصلاح منظومة الاستثمار من أجل التصنيع للتصدير
أي حوافز للصناعة مثل الرخصة الذهبية، وأي إعفاءات جمركية أو ضريبية ستكون محدودة الأثر، ولن تحدث طفرة في التنمية الصناعية، أو تقدم حلول مستدامة للمشكلات التي يعاني منها المستثمرين في مجال الصناعة، وبالتالي في قدرتهم على التصدير لأنها لا تعالج أصل المشكلة، وهو الإطار المؤسسي المسؤول عن منظومة الاستثمار في الصناعة ومن ثم يجب العمل على تطوير وإصلاح النظام المؤسسي والتشريعي بشكل عام لتعزيز القدرة التصديرية للدولة المصرية ومن هذه الإصلاحات الهامة:

-
- إصلاحات فورية بهيئة التنمية الصناعية من خلال تفعيل القانون الموجود بالفعل في هيئة التنمية الصناعية والقضاء على كل التعقيدات المرتبطة باستخراج أو تجديد السجل الصناعي والتراخيص الناتجة عن قرارات داخلية للهيئة وغير موجودة بالقانون أو اللائحة التنفيذية، خاصة المرتبطة بالمشروعات الصغيرة، من خلال إلغاء هذه القرارات.
- خفض الرسوم الخاصة بالخدمات الحكومية وإعادة تقييم التكاليف المعيارية (وهي تكلفة الخدمات المتنوعة التي تقدمها هيئة التنمية الصناعية للمصنعين)، بشكل عادل يتناسب مع تكلفة الخدمة من خلال خبراء خارجيين وتحت إشراف رئاسة الوزراء واتحاد الصناعات، وضرورة إعادة النظر في السياسات الضريبية التي توضع بانفصال تام عن مستهدفات الإنتاج والتشغيل والتصدير.
- التعامل مع شكاوى المستثمرين من خلال منظومة مؤسسية رقمية بعيدا عن الجهود الفردية.
إصلاحات منظومة الاستثمار الصناعي من خلال فك التشابكات بين الهيئات داخل المنظومة وتحقيق إصلاح مؤسسي حقيقي وليس ظاهري يصل إلى “العقد الشامل” الذي يتعامل فيه المستثمر مع هيئة التنمية الصناعية فقط.

-
- المستثمرين هي توفير البنية التحتية الملائمة لاحتياجات المستثمر. فيجب توظيف أعمال تطوير البنية التحتية بشكل يخدم احتياجات المستثمر في إقامة مشروعات في مناطق متعددة.
- إنهاء التداخل الخطير بين دور منظمي القطاعات regulators والنشطاء فيه، فلا يجوز أن تضع الجهة المنظمة القواعد وتدخل في التنفيذ كمنافس للقطاع الخاص. وتظهر هذه المشكلة على كل المستويات، وتظهر جليا فيما يخص التصدير في قطاع مواد البناء، وتحديدا الرخام وهو من القطاعات التصديرية الواعدة، ويواجه حاليا خطر اندثار تدريجي بسبب هذا التداخل في الأدوار.
- سرعة خروج الدولة من الأنشطة الاقتصادية المستقبلية المختلفة، والتوقف عن مزاحمة القطاع الخاص وفي هذا الصدد، تعد وثيقة ملكية الدولة التي صدرت في 2022 خطوة إيجابية من الحكومة بشرط التنفيذ بدون تأجيل ومع وعود مستقبلية بعدم دخول استثمارات جديدة لهم في نفس المجالات التي يتم التخارج منها.
- تبني سياسات تهدف إلى تعميق الصناعة في عدد من القطاعات أو الصناعات المختارة والذي يمكن أن يعزز القدرات التنافسية للمصنعين المصريين في السوق المحلية كما يدعم اندماج الصناعة المصرية بشكل أكثر فعالية في سلاسل القيمة التصديرية. وفي هذا الصدد يمكن تحديد القطاعات ذات الأولوية على أساس الإمكانات التصديرية العالية ثم العمل على إقامة شراكات استراتيجية مع البلدان التي تمتلك علاقات تجارية واستثمارية قوية مع مصر لتوجيه استثماراتها نحو هذه القطاعات.
- التوجه نحو السياسات الداعمة لإنتاج السلع الوسيطة القابلة للتداول والتي تمثل نحو 30% من إجمالي الواردات المصرية وتضم هذه السلع المنتجات البتروكيماوية، والبلاستيك، والحديد والصلب ومنتجاتهم، والخيوط الصناعية، وغيرها. وفي هذه الحالة يجب على الشركاء الإقليمين والدوليين العمل مع الحكومة المصرية من أجل تحقيق استدامة النمو على المدى المتوسط والطويل، وذلك من خلال تيسير الانتقال من نموذج النمو المعتمد على إنتاج سلع غير قابلة للتداول مثل العقارات إلى نموذج جديد يعتمد على السلع القابلة للتداول مثل السلع الوسيطة[1].
- إصلاح قوانين ولوائح الاستثمار، إلى جانب مضاعفة الجهود المبذولة لتحسين مناخ الاستثمار ومكافحة الفساد بحيث تكون الرخصة الذهبية وما تقدمه من مزاياه للمستثمر خاصة الهادف للتصدير هي الأساس وليس الاستثناء، الامر الذيسيزيد من تعزيز ثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد المصري. وفي هذا الصدد يمكن لمصر أن تضع نفسها كوجهة استثمارية جذابة خاصة في ظل التغيرات العالمية الراهنة ومنها الحرب في اوكرانيا والخلافات التجارية مع الصين وامريكا والتوجه الى إعادة هيكلة سلاسل الإنتاج العالمية، وخفض الاعتماد على الصين في التجارة والصناعةdecoupling واتجاه المصنعين في الدول الأوروبية الى الأسواق القريبة الصديقة Nearshoring ، وتأتي الدول الافريقية على رأس المناطق الأكثر استهدافاً من كبرى الدول الصناعية لتوطين صناعتها بها.
تقوم الحكومة بمجهودات عديدة من أجل تعزيز الصادرات المصرية، ولكن هذه الجهود لا يُرى أثرها الحقيقي لأنها تأتي منفردة وليس في إطار منظومة متكاملة للإصلاحات الجزرية الى جانب عدم الشفافية الكافية في عرض النتائج. لذلك إذا أرادت الحكومة المصرية تعزيز الصادرات من أجل خلق مصدر مستدام لتدفقات النقد الأجنبي والذي سيدعم بدوره نمو اقتصادي أكثر استدامة، فيجب عليها وضع استراتيجية محددة الاتجاه لتعزيز الصادرات كمصدر الأكثر استدامة للنقد الأجنبي والعمل على إصلاحات جذرية في منظومتين الأولى منظومة الاستيراد والتصدير والثانية منظومة الاستثمار من أجل التصنيع للتصدير. بالإضافة إلى هذا، يجب على الحكومة الإعلان بشكل دوري وأكثر شفافية عما يتم التوصل إليه من نتائج واتخاذه من إجراءات اصلاحية في كل المعوقات التي يطرحها وطرحها المصدر المصري من قبل للتأكد من جدوى هذه الإصلاحات على القطاع الخاص وخلق قناة تواصل أكثر شفافية ووضوح بين الحكومة ومجتمع الأعمال.
لا تعليقات